الزيد- شاعر المذيعين بين الإذاعة والعزلة

المؤلف: خالد محمد البيتي10.29.2025
الزيد- شاعر المذيعين بين الإذاعة والعزلة

أواه! يعلمُ اللهُ مقدارَ لوعتي وجَوىٰ فؤادي،

لا أَقْوَى على البَوْحِ والإفصاحِ بما أُضْمِرُ من وَجْدِ

رُوحانِ تسكنانِ جسدي، رُوحٌ استوطنها

مَوطني، وأُخرى استهواها بَلَدُ غريبُ الديارِ

وأرَى الرُّوحَ المقيمةَ لا يجديها

صبرٌ، ولا تَقْوَى على تَحَمُّلِ ما قُدِّرَ من الآلامِ

وأحسبُ الرُّوحَ الغائبةَ كَشَهِيدَةٍ تُعاني

فكأنَّها تشعرُ بالحُرقةِ التي تَسْتَعِرُ في قَلْبِي

في ربيعِ عامِ ألفٍ وأربعمائةٍ واثنينِ وعشرين للهجرة، كانَ لي مَوْعِدٌ معهُ بُعَيْدَ انتهاءِ نَشْرَةِ الأَخْبارِ الصَّباحِيَّةِ في تمامِ السَّابعة، لِنَنْطَلِقَ سَوِيًّا لتناولِ وَجْبَةِ الفُطورِ الشَّهِيَّةِ (كَبْدَة)! كُنتُ أنتظرهُ في سيَّارتي بِجِوارِ مَبْنَى الإذاعةِ في الرياضِ، رَيْثَما يَنْتَهِي من قِراءةِ الأَخْبار، وفَجْأَةً أَسْمَعُهُ يَقُولُ بِصَوْتٍ جَهِير: "قامَ زَعِيمُ العِصاباتِ..." إلى آخرِ الخَبَر. ذُهِلْتُ من هَوْلِ ما سَمِعْتُ، وأَدْرَكْتُ لِمَعْرِفَتي الوَثِيقةِ بِهِ أَنَّ هذهِ التَّسْمِيَةَ جاءَتْ من عِنْدِهِ، وَلَيْسَتْ مُدْرَجَةً ضمنَ سِياسَةِ إِدَارَةِ الأَخْبار! وَعِنْدَما انْتَهَى من النَّشْرَةِ، جاءَنِي مُبْتَهِجًا بما قال! فقلتُ لهُ مُسْتَنْكِرًا: لِماذا حَرَّفْتَ في الخَبَر؟ فَأَجابَني بِكُلِّ ثِقَةٍ: هذا رَأْيِي، وَلَنْ أَتَنازَلَ عَنْهُ. قُلْتُ لهُ مُعَاتِبًا: هُوَ رَأْيُ الجَمِيعِ، ولكنَّ هذهِ إذاعةٌ رَسْمِيَّةٌ لَها سِياسَتُها، بإمكانِكَ أَنْ تَقْرَأَ الأَخْبارَ كَيْفَ شِئْتَ في إذاعَتِكَ الخاصَّة المُسْتَقِلَّة!

واحتَدَمَ النِّقاشُ وارتفعَ صَوْتِي عليه، بالرَّغْمِ من أَنَّهُ يَفُوقُنِي سِنًّا، وما دَفَعَنِي لذلكَ إِلَّا حُبِّي لَهُ وَخَوْفِي عليهِ من العَواقِب، لكنَّهُ كَعادَتِهِ في كُلِّ المَواقِفِ يَتَحَصَّنُ بِالحِلْمِ وسِعَةِ الصَّدْرِ.

قالَ لي مُتَسَائِلًا: إلى متى نَقْرَأُ ما يُكْتَبُ؟ لِمَ لا نَكْتُبُ ما نَقْرَأُ؟ قُلْتُ لهُ مُوَضِّحًا: بإمكانِكَ المُطالَبَةُ بالمُشارَكَةِ في إِعْدادِ نَشْرَةِ الأَخْبار، وَعِنْدَها اكتُبْ ما شِئْتَ، وإذا أَقَرُّوا ما كَتَبْتَ، فَسَوْفَ تَقْرَأُ ما خَطَّتْهُ يَداكَ. قالَ مُتَحَدِّيًا: وإذا اسْتَبْعَدُوا ما كَتَبْتُ؟ قُلْتُ: هذا يَعْنِي أَنَّكَ خارِجٌ عَن السِّياسَةِ الإعلامِيَّةِ المَرْسُومَةِ.

تَنَهَّدَ كَالعادَةِ، ثُمَّ أَطْلَقَ تَعْبِيرًا من تَعَابِيرِهِ التي عادةً مَا يُطْلِقُها في جَلَساتِ المُذِيعِين، وتَبْعَثُ على الضَّحِكِ والسُّرورِ مَهْمَا قَسَتْ، فالكُلُّ مُتَّفِقٌ عَلى نُبْلِهِ وَسَماحَةِ خُلُقِهِ، قالَ مُتَبَسِّمًا: "حَيَّا اللهُ فَيْلَسُوفَ الهَزِيمَة". فَقُلْتُ مُجَاوِبًا: طيِّب يا فَيْلَسُوفَ القادِسِيَّة. فَغَرِقَ في مَوْجَةِ ضَحِكٍ طُفُولِيٍّ رَحِمَهُ الله.

تَناوَلْنا سَوِيًّا طعامَ الإفطار، وفي طَرِيقِ العَوْدَةِ إلى مَبْنَى الإذاعةِ تَلَقَّى اتِّصالًا هاتِفِيًّا يَسْتَدْعِيه لِلتَّحْقِيق! وفي اليَوْمِ التَّالِي، صَدَرَ بِحَقِّهِ قَرارُ النَّقْلِ إلى إِدارَةِ المَطْبُوعات. لقد كان القَرارُ رَحِيمًا مُقارنةً بالتحرِيفِ الذي أَقْدَمَ عليهِ في الأَخْبارِ، لكِنَّهُ كانَ قاسِيًا على عاشِقٍ لِلمَايكروفون، وَمُنْذُ ذلكَ اليَوْمِ غابَ صَوْتُ شاعِرِ المُذِيعينَ وَمُذِيعِ الشُّعَراءِ عَنِ المَايكروفون، وَكانَتْ خَسَارَةً فادِحَةً للإذاعةِ وَلِعُشَّاقِهِ من المُسْتَمِعِين، كَمَا كانَتْ وَفاتُهُ من بَعْدُ نِهايَةَ شاعِرٍ مُبْدِعٍ رَحِمَهُ الله.

كُنْتُ أَتَرَدَّدُ عليهِ كَثيرًا في الرِّياضِ، وكُنْتُ أَسْتَمْتِعُ بالجُلُوسِ إليهِ وَبِمَذاقِ شَرابِ القِرْفَة، وذاتَ يَوْمٍ قالَ مُتَأَلِّمًا: اللهُ يَعلَمُ أَنَّنِي كَمِد! قُلْتُ مُسْتَفْسِرًا: وَالسَّبَبُ؟ كُنْتُ أَتَوَقَّعُ أَنْ يَقُول: بِسَبَبِ إِيْقافِي عَنِ العَمَلِ الإذاعِي، لكنَّهُ قالَ بِحُزْنٍ: لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَبُثَّ مَا أَجِد، قُلْتُ مُتَسَائِلًا: هَذا مَطْلَعُ قَصِيدَةٍ جَدِيدَة؟ قالَ مُتَوَاضِعًا: لا، هِيَ لِشاعِرٍ من العَصْرِ العَباسِي، ثُمَّ أَكْمَلَ القَصِيدَة.. وَهِيَ لِلشَّاعِرِ خالِد الكاتِب.

عَرَفْتُ أبا عبدِ الرَّحمن، عبدَ اللهِ بنَ عبدِ الرَّحمنِ الزَّيدِ في عامِ ألفٍ وثلاثِمائةٍ وتِسْعَةٍ وتِسْعِين للهِجْرَة، والْتَقَيْتُهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ في تِلْفِزْيُونِ جِدَّة، كُنَّا يَوْمَها نُنَفِذُ فَتَراتٍ تِلْفِزْيُونِيَّة، وَنُساهِمُ في قِراءةِ مُطالَعاتِ الصُّحُفِ وَمُوجَزِ الأَخْبار، وَزُرْتُهُ في مَقَرِّ إِقامَتِهِ في شُقَّةِ صَدِيقِي السَّكَنِيَّةِ في شارِعِ المَكَرُونَة، وَوَجَدْتُ في غُرْفَتِهِ حَقِيبَتَيْن؛ واحِدَةً لِلْكُتُبِ وَأُخْرَى لِلمَلابِس، وَلَفَتَ انتباهي يَوْمَها كِتابُ "اللا مُنْتَمِي" لِكُولِن وِيلْسُون يَعْلُو جَمِيعَ الكُتُب، وَقَدْ كانَ الكِتابُ الأَكْثَرُ جَدَلًا عِنْدَ صُدُورِهِ، وَكانَتْ مَكْتَباتُنا يَوْمَها لا تَتَوَفَّرُ فِيها مِثْلُ هذهِ النَّوْعِيَّةِ من الكُتُبِ بِسَبَبِ اعْتِلالِ الفِكْرِ الرَّقابِي الذي هَيْمَنَ زَمَنًا على إِدارَةِ المَطْبُوعات.

ظَلَّ هَذا العُنْوانُ في مُخَيِّلَتِي لا يُفارِقُها كُلَّما الْتَقَيْتُ بالصَّدِيقِ عبدِ اللهِ الزَّيد، رَحِمَهُ الله، وَلَمْ يَمُرُّ عامَانِ إِلَّا وَاقْتَنَيْتُ الكِتاب، كانَ بِالنِّسْبَةِ لِي فَتْحًا أَنْ أَقْرَأَ الكِتابَ لَيْسَ من أَجْلِ الكاتِبِ وَما أُثِيرَ حَوْلَهُ وَحَوْلَ الكِتاب، وَإِنَّما لِلسَّيْرِ عَلى خُطى الصَّدِيق.

كانَ الكِتابُ بِالنِّسْبَةِ لِي قَبْلَ ما يَزِيدُ عَلى أَرْبَعَةِ عُقُود، وَأَنا في طَلائِعِ العِشْرِين، عَصِيًّا عَلى الفَهْمِ، لكِنَّنِي كُنْتُ أُكابِدُ النَّفْسَ لِفَهْمِ ما أَسْتَطِيعُ.

كانَ العُنْوانُ في حَدِّ ذاتِهِ يَفْتَحُ نافِذَةً عَلى شَخْصِيَّةِ الصَّدِيق، كُنْتُ أَرَى فِيهِ لا مُنْتَمِيًا لِمَنْ حَوْلَهُ من الزُّمَلاءِ وَالأَصْدِقاءِ وَلِعُمُومِ المُجْتَمَع، كانَ نَسِيجَ وَحْدِهِ في عَفْوِيَّتِهِ وَبَساطَتِهِ وَتَسَامُحِه، حَتَّى لِتَشْعُرَ أَنَّهُ إِنْسانٌ من عَصْرٍ آخَرَ غَيْرِ العَصْرِ الذي نَعِيشُ فِيه.

وَتَساءَلْتُ مُتَعَجِّبًا: هَلْ وَقَعَ الزَّيدُ تَحْتَ تَأْثِيرِ وِيلْسُون أَمْ أَنَّهُ بِطَبِيعَتِهِ أَحَدُ الَّذِينَ عَناهُم في كِتابِهِ بِسَبَبِ القَلَقِ الذي يُسَيْطِرُ عَلَيْهِم فَيَأْخُذُهُم بَعِيدًا إِلى مَنْفَى العُزْلَة. إِلَّا أَنَّ حَدِيثَ وِيلْسُونَ عَنِ اللا مُنْتَمِي جَعَلَنِي أُحاوِلُ قِراءةَ صَدِيقِي بِصُورَةٍ أُخْرَى، خاصَّةً أَنَّهُ يَرَى أَنَّ جَوْهَرَ الدِّينِ هُوَ الحُرِّيَّة، وَذَلِكَ ما كانَ يَتَوَقُ لَهُ صَدِيقِي، وَإِلَّا لَمَا قالَ لِي مُعْتَرِضًا: لِمَ لا نَقْرَأُ ما نَكْتُبُ وَلَيْسَ ما يُكْتَبُ لَنا؟

وَقَدْ كانَ مُتَدَيِّنًا بِالفِطْرَةِ بَلْ وَشَدِيدَ التَّدَيُّن، بالرّغمِ مما لَحِقَ شُعَراءَ الحَداثَةِ وَهُوَ في طَلِيعَتِهِمْ من تُهَمٍ وَطَعْنٍ بَلَغَ حَدَّ المُعْتَقَد!

فَقَدْ كُنْتُ ضَيْفًا عَلَيْهِ في دَارِهِ عامَ أَلْفٍ وَأَرْبِعِمائَةٍ للهِجْرَة -أَلْفٍ وَتِسْعِمائَةٍ وَثَمانِين لِلمِيلاد- لِمُدَّةِ ثَلاثَةِ أَيَّام، شَعَرْتُ خِلالَها أَنَّنِي في ضِيافَةِ أَحَدِ التَّابِعِين، من زُهْدِهِ وَوَرَعِهِ وَطُولِ لُزُومِهِ المَسْجِد.

لَقَدْ عاشَ رَحِمَهُ اللهُ لا مُنْتَمِيًا لِكُلِّ صِفاتِ الرَّذِيلَةِ من غِشٍّ وَحَسَدٍ وَنَمِيمَةٍ وَغِلٍّ وَطَمَعٍ وَتَكالُبٍ عَلى الدُّنْيا.

كُنْتُ أَرَى فِيهِ أَحَدَ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ الله في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ (شابٌّ نَشَأَ في طاعَةِ الله).

وَما زالَ طَيْفُهُ الحَبِيبُ يُخَايِلُنِي بَيْنَ الحِينِ وَالآخَرِ مُرَدِّدًا أَبْيَاتِ الكاتِبِ الَّتِي سَمِعْتُها مِنْهُ وَأَشْعُرُ بِالكَمَدِ وَكَأَنَّنِي أَحْيا بِرُوحَيْن.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة